مقطع تحكي هذه القصة أنّ "محمود سامي البارودي" ولد في القاهرة سنة 1838، وهو من أصل شركسي، وفي عهده كانت بداية نفوذ الأجانب في مصر، وفي بادئ الأمر جاؤوا إليها كعلماء وباحثين ليشاركوا في نهضتها، ثم وفدوا إليها تجارا مغامرين، وكان جلهم من الفرنسيين لأن فرنسا التي فاتها الغزو الحربي الذي حاوله نابليون. وفي أثناء عمله بالجيش اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة 1865م لمساندة جيش الخلافة العثمانية في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة "كريت" وهناك أبلى البارودي بلاء حسنًا، وجرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه. وبعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية ياورًا خاصًا للخديوي إسماعيل، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام، ثم تم تعيينه كبيرًا لياوران ولي العهد "توفيق بن إسماعيل" في يونيو1873م، ومكث في منصبه سنتين ونصف السنة. عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبا لسره (سكرتيرًا) ثم ترك منصبه في القصر، وعاد إلى الجيش. ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب، كان البارودي ضمن قواد الحملة الضخمة التي بعثتها مصر، ونزلت الحملة في "وارنة" أحد ثغور البحر الأسود، وحاربت في "أوكرانيا" ببسالة وشجاعة غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين وألجأتهم إلى عقد معاهدة "سان استفانو" في مارس 1878م، وعادت الحملة إلى مصر وكان الإنعام على البارودي برتبة "اللواء" والوسام المجيدي من الدرجة الثالثة، ونيشان الشرف لِمَا قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة. العمل السياسي: بعد عودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في إبريل 1878م، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها، بعد أن غرقت البلاد في الديون وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية، وتحركت الصحافة، وظهر تيار الوعي الذي يقوده "جمال الدين الأفغاني" لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار. وقد نهض البارودي بوزارة الأوقاف، ونقح قوانينها وكون لجنة من العلماء والمهندسين والمؤرخين للبحث عن الأوقاف المجهولة، وجمع الكتب والمخطوطات الموقوفة في المساجد ووضعها في مكان واحد، وكانت هذه المجموعة نواة دار الكتب التي أنشأها "علي مبارك"، كما عُني بالآثار العربية، وكون لها لجنة لجمعها فوضعت ما جمعت في مسجد الحاكم حتى تُبنى لها دار خاصة، ونجح في أن يولي صديقه "محمد عبده" تحرير الوقائع المصرية فبدأت الصحافة في مصر عهدًا جديدًا. ثم تولى البارودي وزارة الحربية خلفا لــ "رفقي باشا" إلى جانب وزارته للأوقاف بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة "عرابي" بعزل رفقي، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند، لكنه لم يستمر في المنصب طويلاً، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته 22 من أغسطس 1881م نظرا لسوء العلاقة بينه وبين "رياض باشا" رئيس الوزراء الذي دسّ له عند الخديوي. البارودي في المنفى: أقام البارودي في الجزيرة سبعة عشر عامًا وبعض العام، وأقام مع زملائه في "كولومبو" سبعة أعوام، ثم فارقهم إلى "كندي" بعد أن دبت الخلافات بينهم، وألقى كل واحد منهم فشل الثورة على أخيه، وفي المنفى أشغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام. وطوال هذه الفترة قال قصائده الخالدة التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله. ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة، واجتمعت عليه علل الأمراض وفقدان الأهل والأحباب، فساءت صحته واشتدت وطأة المرض عليه، ثم سُمح له بالعودة بعد أن تنادت الأصوات وتعالت بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في 12من سبتمبر 1899م. شعر البارودي: يعد البارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث، إذ وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة، وربطه بحياته وحياة أمته. وهو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم، فإن له مع ذلك تجديدا ملموسا من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه، وله معان جديدة وصور مبتكرة. وقد نظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاء ورثاء، مرتسما نهج الشعر العربي القديم، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم، فهو الضابط الشجاع، والثائر على الظلم، والمغترب عن الوطن، والزوج الحاني، والأب الشفيق، والصديق الوفي. وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت طبع في أربعة مجلدات، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري أطلق عليها "كشف الغمة"، وله أيضا "قيد الأوابد" وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع، و"مختارات البارودي" وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي، يبلغ نحو40 ألف بيت. ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في 12 من ديسمبر 1904م.
عنوان الكتاب
فؤاد حمدو الدقس


أدباء ومفكرون " تاريخ أدباء العربية"
محمود سامي البارودي
الشجاعة - قصص الأطفال
الدفاع عن الوطن