مقطع قال "دبشليم " الملك " لبيدبا" الفيلسوف: اضرب لي مَثَلا عن الملك الذي يراجع من أصابته منه عقوبة من غير جرم ، أو جفوة من غير ذنب. قال الفيلسوف: إن الملك لو لم يراجع من أصابته منه جفوة عن ذنب أو عن غير ذنب ظلم أولم يظلم ؛ لأضر ذلك ، ويخبر ما عنده من المنافع، فإن كان ممن يوثق به في رأيه وأمانته، فإن الملك حقيق بالحرص على مراجعته؛ فإن الملك لا يستطاع ضبطه ، إلا مع ذوي الرأي وهم (الوزراء والأعوان ) إلا بالمودة والنصيحة، ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوي الرأي والعفاف. والمثل في ذلك مثل الأسد والشغبر الناسك. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: كان الشغبر الناسك يسكن في غابة يكثر فيها الصيد، وكان متزهداً متعففاً، مع بنات آوى والذئاب والثعالب. ولم يكن يصنع ما يصنعن، ولا يغير كما يغرن، ولا يريق دماً ولا يأكل لحماً. حتى بلغ ذلك أسداً كان ملك تلك الناحية فرغب فيه؛ لما بلغه عنه من العفاف والنزاهة والزهد والأمانة ؛فأرسل إليه يستدعيه. فلما حضر كلمه وآنسه فوجده في جميع الأمور وفق غرضه. ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته وقال له: تعلم أن عمالي كثير وأعواني جم غفير، وأنا مع ذلك إلى الأعوان محتاج. وقد بلغني عنك عفاف وأدب وعقل ودين Pفازددت فيك رغبة. وأنا موليك من عملي جسيمهً ، ورافعك إلى منزلة شريفة ، وجاعلك من خاصتي. رفض الشغبر الناسك في بداية الأمر ولكنه وافق بعد إلحاح الأسد عليه عدة مرات. فلما رأى أصحاب الأسد ذلك الكرم الكبير من الأسد إلى الشغبر الناسك غاظهم وساءهم? فأجمعوا كيدهم، واتفقوا كلهم على أن يحملوا عليه الأسد، فقاموا بحمل طعام الأسد إلى بيت الشغبر وخبؤوه فيه. فلما كان الغد ودعا الأسد بغدائه فلم يجده! والشغبر لم يشعر بما صنع في حقه من المكيدة، فحضر الذين عملوا المكيدة، وقعدوا في المجلس. ثم إن الملك سأل عن اللحم، وشدد فيه، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بما يضره وينفعه، وإن شق ذلك على من يشق عليه. وإنه بلغني أن الشغبر هو الذي ذهب باللحم إلى منزله. فأرسل الأسد أميناً إلى بيت الشغبر الناسك ليفتشه، فوجد فيه ذلك اللحم، فأتى به الأسد. فقال بعض جلساء الملك: إني لأعجب من رأي الملك ومعرفته بالأمور كيف يخفى عليه أمر هذا، ولم يعرف خبثه ومخادعته? فأمر الأسد بوضع الشغبر في السجن. فعلمت أم الأسد أنه قد عجّل في أمره، فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله أن يؤخروه، ودخلت على ابنها، فقالت: يا بني بأي ذنب أمرت بقتل الشغبر? فأخبرها بالأمر. فقالت: يا بنيَّ عجّلت. وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة وبالتثبت. والعجلة لا يزال صاحبها يجتني ثمرة الندامة، بسبب ضعف الرأي. وليس أحد أحوج إلى التُّؤدة والتثبت من الملوك، وليس ينبغي للملك أن يخوّنه بعد ارتضائه إياه وائتمانه له، ومنذ مجيئه إلى الآن لم يطلع له على خيانة إلا على العفة والنصيحة. وما كان رأي الملك أن يعجل عليه لأجل قطعة لحم. وفي أثناء حديث أم الأسد دخل أحد أتباع الأسد المخلصين الذي تتبع أعداء الشغبر، وعرف أنهم كادوا له هذه المكيدة؛ ليتخلصوا منه بسبب عطف الملك (الأسد) ؛ فأمر الأسد بإعدام هؤلاء الأتباع المحتالين، وأخرج الشغبر من سجنه، وعفا عنه واعتذر له من الخطأ الذي كاد يقع فيه ، وولاه جميع أمور دولته. ولم تزده الأيام إلا ثقة به. فلما سمع "دبشليم" الملك هذه القصة قال: صدقت يا بيدبا! إن إصرار الملك على تنفيذ أمره الخطأ خطر جسيم.
عنوان الكتاب
إبراهيم عزوز


قصص من كليله ودمنه
الأمانة
العفو عند المقدرة
حسن الظن
الذكاء*